حقيقة الاسراء والمعراج
الفصل الثاني
في حقيقته
اختلف في الاسراء والمعراج؛ هل كانا في ليلة واحدة أم لا، وأيهما كان قبل الآخر، وهل كان في اليقظة أو في المنام، او بعضه في اليقظة وبعضه في المنام، وهل كان مرة أو مرتين أو مرات: فذهب الجمهور من المفسرين والمحدثين والفقهاء والمتكلمين الى أنهما وقعا في ليلة واحدة في اليقظة وتواردت عليه طواخر الأخبار الصحيحة وقوله تعالى:
{سبحان الذي أسرى بعبده ليلا} الاسراء.
لأن التسبيح إنما بكون عند الأمور العظام، ولو كان مناما لم يكن فيه كبير شيء، ولما بادرت قريش الى إنكاره، ولا ارتد جماعة من ضعفاء من أسلم، ولأن العبد عبارة عن مجموع من الروح والجسد، ولو كان مناما لم يقل بعبده بل بروح عبده، وليس العقل ما يحيل ذلك أيضا، ولأنه حمل على البراق والروح لا تحمل، وإنما يحمل البدن.
ويؤيده ما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، من حديث محمد بن كعب القرظي، في شأن أبي سفيان مع هرقل " البخاري كتاب بدء الوحي" قال: وأبو سفيان يجهد أن يحقر أمره ويصغره عنده قال: حتى ذكرت ليلة أسري به فقلت: أيها الملك ألا أخبرك خبرا تعرف أنه قد كذب؟ قال: وما هو؟ قلت: يزعم أنه خرج من أرضنا أرض الحرم فجاء هذا مسجدا ايليا ورجع الينا في تلك الليلة قبل الصباح. وبطرق إيليا عن رأس قيصر بطريق إيليا. فنظر قيصر قال: ما علمك بها؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد، فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني النوم فاستعنت عليه عمالي ومن يحضرني كلهم، فعالجته فغلبني فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به حبلا، فدعوت اليه النجاجرة، فنظروا اليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه البنيان ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى، فرجعت وتركت البابين مفتوحين، فلما عدوت عليها فإذا الحجر الذي من زاوية المسجد مثقوب، وإذا فيه أثر ربط الدابة، فقلت لأصحابي: ما حبس هذا الباب الليلة الا على نبي، وقد صلى الليلة في مسجدنا. الخصائص الكبرى للسيوطي 1/423ـ425. ابن كثير 5/39.
وذهب جماعة الى أن الاسراء كان بروحه في المنام، فقد كان معاوية يقول إذا سئل عن الاسراء: كانت رؤية من الله صادقة. وقالت عائشة: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإنما أسري بروحه. رواهما ابن اسحاق في السيرة. سيرة ابن هشام 2/5. ولقوله تعالى:
{وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس} الاسراء 60.
والرؤية إنما تطلق على ما كان مناما، ولظاهر في بعض الأحاديث السابقة من قوله:"بينا انا نائم"، وفي بعض الطرق"فاستيقظت وانا بالمسجد الحرام". وأجيب عن الآية بأن قوله:{ فتنة للناس} يريد أنها رؤيا عين، إذ ليس في الحلم فتنة، ولا يكذب به أحد. وقيل: إن الآية نزلت في غير قصة الاسراء وعن قوله:" بينما أنا نائم". بأن أول مجيء الملك اليه وهو نائم. فأيقظه، لا أنه استمر نائما. وأما قوله:"فاستيقظت وأنا بالمسجد الحرام". فالمراد به الافاقة البشرية من الغمرة الملكية، على أن شريكا رواية اضطرب فيه وساء حفظه، وزاد ونقص، وقدم وأخر وأما قول عائشة: ما فقدت جسده، فعائشة لم تكن حينئذ زوجة، بل لعلها لم تكن ولدت بعد على الخلاف في الاسراء متى كان، فإنها كانت في الهجرة بنت ثمانية أعوام، وسيأتي تاريخ الاسراء بأقواله، فإذا لم تشاهد ذلك دل على أنها حدثت به عن غيرها، فلم يرجع خبرها، مع قول أم هانئ بخلافه، على أن عائشة أنكرت أن يكون صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ربه، فدل على أن الاسراء كان يقظة، إذ لو كان مناما لم تنكره.
وذهب بعضهم الى أن الاسراء كان في اليقظة، والمعراج كان في المنام، ولذلك لما أخبر به قريشا كذبوه في الاسراء واستبعدوا وقوعه، ولم يتعرضوا للمعراج، ولأن الاسراء ذكر في القرآن في معرض الامتنان، فلو كان متصلا باليقظة الى الملأ الأعلى لما اقتصر على قوله الى المسجد الأقصى مع كون شأنه أعجب وأغرب.
وذهب بعضهم الى أن الاسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة متمسكا في بعض الأحاديث من ترك ذكر الاسراء، ورد بأنه محمول على أن بعض الرواة ذكر ما لم يذكره الآخر، وتمسك أيضا بما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى 1/213: أنه كان عليه السلام يسأل ربه أن يريه الجنة والنار، فلما كانت ليلة السبت لسبع عشر من رمضان قبل الهجرة بثمانية عشر شهرا ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نائم في بيته أتاه ميكائيل وجبريل فقالا: انطلق الى ما سألت الله فانطلقا به الى ما بين المقام وزمزم فأتى بالمعراج فإذا هو أحسن شيء منظرا فعرجا به الى السموات. الحديث. وهذا قد ضعفوه بأبي بكر بن محمد بن أبي سبرة.
وذهب آخرون الى أن ذلك كله وقع مرتين، مرة في المنام توطئة وتمهيدا وتسهيلا عليه، كما كان بدء نبوته الرؤيا الصادقة ليسهل أمر النبوة ومرة ثانية في اليقظة، قالوا: وبذلك يجمع بين الأحاديث، ممن اختار هذا القول أبو نصر القشيري، وابن العربي والسهيلي.
وجوز بعض أصحاب هذا القول أن تكون القصة في المنام وقعت قبل البعث لأجل ما في رواية شريك، وذلك قبل أن يوحى اليه.
وقيل: إن الاسراء وقع مرتين: مرة على انفراده، ومرة مضموما اليه المعراج، وكلاهما في اليقظة، والمعراج أيضا وقع مرتين مرة وقع في المنام ومرة وقع على انفراده توطئة، ومرة في اليقظة مضموما اليه الاسراء.
وذهب الامام أبو شامة الى وقوع المعراج مرارا واستند الى حديث أنس الذي أخرجه البزار السابق.
قال شيخ الاسلام ابن حجر:
وتعدد مقل تلك القصة التي فيه لا تستبعد وإنما المستبعد وقوع التعدد الذي في قصة المعراج التي وقع فيها سؤاله عن كل نبي، وسؤال أهل كل باب وسماء: هل بعث اليه؟ وفرض الصلوات، وغير ذلك، فإن تعدد ذلك في اليقظة لا يتجه، ولا يبعد وقوع ذلك كله في المنام توطئة، ثم في اليقظة على وفقه.
قال شيخ الاسلام عزالدين بن عبدالسلام:
كان الإسراء في النوم واليقظة وقع بمكة والمدينة: قال شيخ الاسلام ابن حجر: وهو غريب إلا أن يريد تخصيص المدينة بالنوم ويكون في كلامه لف ونشر وغير مرتب، ويكون الاسراء الذي اتصل به المعراج وفرضت فيه الصلاة في اليقظة بمكة، والآخر في المنام بالمدينة. قال: وينبغي أن يزاد ان الاسراء في المنام تكرر في المدينة، انتهى. فتح الباري 7/198.
تاريخ
الاسراء والمعراج
الفصل الثالث
في تاريخه
وهو قسمان: الأول الزماني.
فقيل قبل البعثة، وهو شاذ، وسبق تأويله. ولعل قائله تمسك بحديث الطبراني السابق فإنه صرح فيه أنه قبل ولادة فاطمة، وهي ولدت قبل النبوة بسبع سنين وشيء، لكن الحديث ضعيف، والأكثر أنه بعدها ثم اختلف.
فقيل: قبل الهجرة بسنة: قاله ابن مسعود، وجزم به النووي وقيل: قبلها بثمانية أشهر، حكاه ابن الجوزي.
وقيل: بستة أشهر، حكاه أبو الربيع بن سالم.
وقيل: بأحد عشر شهرا، قاله ابراهيم الحربي، ورجحه الى ابن المنير.
وقيل: بخمسة عشر شهرا، حكاه ابن فارس.
وقيل: بسبعة عشر شهرا، قاله السدي.
وقيل: بثمانية عشر، حكاه ابن عبدالبر.
وقيل: بعشرين.
وقيل: بثلاث سنين، حكاه ابن الأثير.
وقال الزهري: بخمس، حكاه عنه القاضي عياض، ورجحه بالاتفاق على أن خديجة صلت معه بعد فرض الصلاة، وأنها ماتت قبل الهجرة بثلاث أو خمس ولا خلاف أن فرضها ليلة الاسراء، وأجيب بأن الصلاة التي صلتها معه هي التي كانت أول البعثة لركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.
وقيل: كان بعد البعثة بخمس سنين.
وقيل: بخمسة عشر شهرا.
وقيل: بعام ونصف وأما الشهر الذي كان فيه فالذي رجحه ابن المنير على قوله في السنة ربيع الآخر، وجزم به النووي في شرح مسلم،
وعلى القول الأول في ربيع الأول، وجزم به النووي في فتاويه.
وقيل: في رجب وجزم به في الروضة.
وقال الواقدي: في رمضان.
والماوردي في شوال، لكن المشهور أنه في رجب
وأما تعيين تلك الليلة من الشهر فعينها ابن سعد ليلة السبت لسبع عشر من رمضان
وقال ابن المنير كالحربي: أنها ليلة سبع وعشرين من ربيع الاخر، وبذلك رجح القول بأنه في ربيع الاخر قبل الهجرة بأحد عشر شهرا لأنه احاط بتفصيل القضية وحررها بخلاف غيره.
قال ـ أعني ابن المنير:
"ويمكن أن يعين اليوم الذي أسفرت عنه هذه الليلة، ويكون يوم الاثنين استقراء من تاريخ الهجرة فإنها على الأصح كانت يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول، وإذا كان الثاني عشر يوم الاثنين. فأوله الخميس قطعا، وإذا كان أوله الخميس فأول ربيع الأول من السنة التي قبلها وهي التي فيها الاسراء أي على ما رجحه إما السبت أو الأحد أو الاثنين، لأن كل يومين متقابلين من سنتين متواليتين بينهما ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ولهذا تكون الوقفة من كل سنة خامس يوم من التي قبلها أو سادسه أو سابعه، وأعدل الاحتمالات الأول، فالجمعة تعقبها الثلاثاء، والاثنين تعقبها الجمعة، وقد يكون بخلاف ذلك بحسب توالي التمام والنقصان في الشهور فتبنى على الأقل الأغلب فيكون أول ربيع الأول من سنة الاسراء الاثنين ويكون أول ربيع الآخر وهو شهر الاسراء الأربعاء بفرض ربيع الأول تماما، وحينئذ فالسابع والعشرون منه الاثنين، وهو اليوم الذي أسفرت ليلة الاسراء عنه إن شاء الله، وحينئذ يوافق كون مولده يوم الاثنين (ومبعثه يوم الاثنين.وكذا هجرته ووفاته، فإن هذه الخمسة أطوار الانتقالات النبوية) واتفق على أربعة منها أنها يوم الاثنين، فيقرب جدا في الخامس أن يكون اسوتها وتكون يوم الاثنين في حقه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كيوم الجمعة في حق آدم عليه السلام، فإنه فيه خلق، وفيه نزل الى الأرض، وفيه تيب عليه، وفيه مات. هذا كلام ابن المنير، ثم قال:
" وقد رود أنها كانت ليلة "الجمعة" وهذا نقل محض يحتاج الى الصحة وهو لائق بالاسراء لأجل فضيلة الجمعة قلت: لكن فيه وقفة، فإنه صح أن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أول يوم بعد الاسراء الظهر ولو كان الجمعة لم يكن فرضها الظهر، إلا أنه يحتمل أن تكون الجمعة لم تفرض بعد، ويبعد هذا الاحتمال أن الجمعة أقيمت بالمدينة قبل الهجرة أقامها أسعد بن زرارة والاسراء على هذا القول قريب من الهجرة فيبعد أن تكون الجمعة لم تفرض حينئذ فشا وكثر المسلمون. فلا يقال لعل عدد الجمعة لم يكن موجودا، والله أعلم".
وأما التاريخ المكاني: فباعتبار البلد، المشهور أنه بمكة، ومن قال بالمدينة فمحمول على التعدد والمنام وباعتبار المكان الخاص، فيؤخذ مما تقدم في الأحاديث من أقوال:
فقيل: في المسجد.
وقيل: بين المقام وزمزم.
وقيل: في الحجر.
وقيل: في بيته.
وقيل: في بيت أم هانئ.
وفي الشفاء: ما يؤخذ منه أنه كان في بيت خديجة.
وقيل: في شعب أبي طالب، رواه الواقدي.
النكت والفوائد
المتعلقة به
الفصل الرابع
في نكته
وهي كثيرة، والذي اخترنا منها هنا عشرون نكتة:
الأولى: تكلم الناس في الحكمة في الاسراء به أولا الى بيت المقدس قبل المعراج فقيل: ليحصل العروج مستويا من غير تعريج لما روى عن كعب الحبار ان باب السماء الذي يقال له مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس، قال: وهو أقرب الأرض الى السماء بثمانية عشر ميلا.
وقيل: ليجمع تلك الليلة بين القبلتين.
وقيل: لأن بيت المقدس كان هجرة غالب الأنبياء قبله فحصل له الرحيل اليه في الجملة ليجمع بين أشتات الفضائل.
وقيل: لأنه محل الحشر وغالب ما اتفق له في تلك الليلة يناسب الأحوال الأخروية فكان المعراج منه أليق.
وقيل: للتفاؤل بحصول أنواع التقديس له حسا ومعنى.
وقيل: لإرادة إظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة الى السماء لم يجد لمعاندة الأعداء سبيلا الى البيان والايضاح، فلما ذكر عليه الصلاة والسلام أنه أسري به الى بيت المقدس، سالوه عن جزئيات بيت المقدس كانوا رأوها وعلموا أنه لم يكن رآها قبل ذلك، فلما أخذهم بها حصل التحقيق بصدقه فيما ذكر من الاسراء الى بيت المقدس في ليلة، وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ما ذكره.
الثانية: استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الاسراء: وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، كما قال أحمد: حدثني حيوة ويزيد بن عبد ربه، قالا: حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد عن خالد بن معدان، عن ابن عمرو السلمي، عن عتبة بن عبد السملى، أنه حدثهم، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كيف كان أول شأنك يا رسول الله؟ قال:
" كانت حاضنتي من بني سعد بن بكر فانطلقت أنا وابن لها في بهم لنا ولم نأخذ معنا زادا فقلت: يا أخي اذهب فأتنا بزاد من عند امنا فانطلق أخي ومكثت عند البهم، فأقبل طيران أبيضان، كأنهما نسران، فقال أحدهما لصاحبه: أهذا هو؟ قال: نعم، فأقبلا يبتدراني فأخذاني فبطحاني الى القفا، فشقا بطني ثم استخرجا قلبي فشقاه فأخرجا منه علقتين سوداوين. فقال أحدهما لصاحبه (قال يزيد في حديثه): ائتني بماء ثلج فغسلا به جوفي، ثم قال أحدهما لصاحبه: خطه، فخاطه وختم عليه بخاتم النبوة.. الحديث" وقال ابن دحية في معراجه وابن المنير وغيرهما: الصحيح أن شق الصدر مرتان.
قال شيخ الاسلام ابن حجر: بل ثلاث مرات، فقد ثبت أيضا عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل، ولكل حكمة.